الكاتب والمخرج المسرحي صادق أسود |
هذا قدري
"قصةقصيرة"
شعرت وأنا أداهم ذك المتجر برفقة من أخبروني عن وكر خيانة زوجي، أني تواقة لشكرهم جزيل الشكر لأنهم نوروا بصيرتي، وشعرت برغبة دفينة بألا أتبين صدق أنبائهم وأن يكون زوجي أرقى وأطهر مما نسب إليه.
كان الخوف يعتصرني كنبيذ قدسي أخذ صبغته الداكنة من تقادم السنين، وبدا ذاك على وجنتاي الملتهبتان، كانت إرادتي في وضع حد لخيانة زوجي تدفعني للدخول على عجل، وكرامتي كأنثى لا تطمح ذات لحظة أن تجد زوجها في أحضان سواها كانت تمنعني من المسير، بل كانت تضع أمامي عوائق الرأفة والأدب والخجل سدودا من ذكرى، تلك العوائق هي كل ما تحليت به منذ طفولتي وقدمته لزوجي راضية قانعة حين لم يتبادر لمخيلتي رغم اتساع افقها الغير محدود أني سأكون في ذاك المشهد.
كان المشهد فظيعا، مخجلا، وكان هروب زوجي من
وقع العيون التي كشفت سره أشبه بفأر أغلقت عليه الطرق، كان موقفه المخزي يجرحني
لأنني طالما أردته فوق الشبهات، فوق الرجولة، فوق المعتاد، هذا هو زوجي الذي أعظمه
في ناظراي يتهاوى وتضمحل رجولته.
أخذ يهاجم من كان برفقتي بألفاظ نابية
لاقتحامهم ذاك المتجر الذي كان يضاجع فيه مالكته، تلك الأنثى التي سمحت لنفسها أن
تمارس الزنا حيث كان سبيل رزقها عوضا عن التجارة لتستعيض بالحرام عن الحلال، أما
أنا فلم أتمالك نفسي وشعرت برغبة في البكاء، لذا فقد غادرت المكان الذي سفكت فيه
كرامتي بوحشية غيلان شرسة، غادرت بذات السرعة التي شابهت قيادتي لسيارتي ذاك اليوم
وأنا عائدة إلى دمشق.
تساءلت كثيرا لماذا لم أتبين معالم وجه تلك
الأنثى التي استهترت بكرامتها قبل استهتارها بكرامتي، وكنت قد سمعت بأنها نقيض
شخصي بما أتمتع به من جمال.
أنا لم أكن قادمة من دمشق بسيارتي لأن زوجي
الذي يستاء من العلاقات الاجتماعية للمرأة يحول دون خروجي من الدار إلا في فترات
متقطعات ولهذا اعتاد على قيادة سيارتي بشكل دائم، لكنني حين غادرت المتجر هرعت
استقل سيارتي لأبين له ما تفانيت في إغداقه عليه من مال وجمال ومن عفة ونسب، وكل
هذه الخصال التي لم أتباهى فيها أمامه مطلقا كانت تفوق تلك التي دنس زوجي نفسه حين
ارتمى بأحضانها، كما كانت تفوق زوجي، وكانت هذه الخصال أسباب تذرع الأهل بالرفض
حين طلب خطوبتي، وكانت حافزا لدي كي أثبت للملأ أن الزوجة الصالحة قادرة على إماهة
فروق الجمال والمال والنسب مع زوجها.
وأنا أقود سيارتي التي استعدتها قررت أن
أستعيد كل شيء كما استعدت سيارتي.
قلت له حين جاء معتذرا:
ـ لن تتمكن من إصلاح ما أفسدت لأنك فاسد
أصلا.
ذكرته وأنا أسعى لجرح كرامته كما جرح كرامتي
بما أبقيته أعواما مكنوز داخل صدري وقلت له:
ـ هل تذكر أنك قمت بالإنفاق على دارك هذه ذات
يوم، أنا لا أذكر إلا أنك كنت عالة علي.
وشعرت به يتحطم على أعتاب رجولة أنقضت أيامها
فانتهت أطلال أم كرامة أنثى جريحة.
وأضفت ما يطيح به فيهشمه:
ـ هل أخبرت عشيقتك أنك تتقاضى مصروفك مني
كالأطفال رغم أنك حرمتني متعة الأمومة لأنك عقيم.
صاح بي ليسكت صوتي الذي يعريه، ولم أكن قد
اتخذت هذا الموقف مسبقا في حضرة من جعلت منه سيد الدار، فسمعت من مكاني صوت ضربات
قلبه كجيوش غزاة بآلاف الفرسان والرماة والمحاربين الصناديد تريد أن تخترق في حصون
إرادتي بثغرة واحدة كان على علم مسبق بها فاختارها نقطة ضعف لمحاربتي.
كان على ثقة أني لا أميل لحمل لقب مطلقة،
لكنني شعرت وأنا أتبين محاولاته لاختراق حصوني أن حمل لقب مطلقة خير من حمل لقب
غبية مستغفلة، فانتقيت له من الألفاظ ما يحمله عنوة على الإسراع في هذا الأمر.
ـ أنا لا يشرفني أن أبقى على ذمة رجل مثلك،
أريد حريتي.
نعم قلت أريد حريتي، لم أقول له أريد الطلاق،
لأن خلاصي منه كان حرية.
فسألني صديقي الذي كنت أروي له حكايتي حين كنا
في مستهل إنشاء مرسم أنمي من خلاله هوايتي التي آثر الأهل إلا حرماني منها فتابع
طليقي ذات المنحى ليأسرني في داره كعصفور جميل في قفص لا يتمتع بصوته ووثباته سوى
مالكه.
سألني صديقي باستغراب رجل شرقي حين تأسره
أنثى جريئة الإفصاح، وهو الذي لم يعتاد إلا أن يكون المباغت والمباشر وصاحب السبق
في أي طلب يكون محوره أنثى ورجل:
ـ لماذا تروين لي هذه المأساة؟.
قلت له بابتسامة جريح لا ينسى جروحه التي لم
تعمل الأيام على أن تلتئم:
ـ رغم أني لم أتخطى حدود الشباب ولم ينتصف بي
العقد الثالث من عمري لكنني أتمكن من الفراسة.
أعلن بابتسامته أنه لا يفقه ما أقول فأردفت:
ـ هل بعد ما تأتي عليه من إطراء وإعجاب بشخصي
إلا انتظار للإفصاح عن شعور قدسي.
تطايرت ابتساماته ثم عرضها وهب واقفا ككباب
الشتاء تتقاذفه لسعات السعادة الحارة الحارقة وليس نسائم لا تتعدى الأنفاس
البشرية، واتخذ على طاولتي بيديه وضعية الفدائي المحاضر الذي يريد إعلان رغبته في
بلوغ أمانيه سلما أو حربا وهو يستعرض عضلاته لإثبات مقدرته على خوض غمار الحرب.
وقال يشعر بالخذي بألا يكون صاحب السبق بتلك
التصاريح:
ـ إذا فأنت على دراية بما أكن لك في الفؤاد.
فقلت له أستهتر بثوريته التي تأخرت كي ألجم
عنفوانه الذي لا يناسبني في طبيعة الأحوال أن أجاريه بها:
ـ يا سيدي أنا لن أقول لك أن ما خضت من تجربة
بأنه قدري وأنني عكفت عن الزواج فليس منا من لن ينتهي ذات لحظة في ذاك القفص
الذهبي أو سواه من المعادن الرديئة، أنا أبلغ رسالتي بأن لا قبل لي بتجربة أخرى
تعصف بأركان حياتي.
كنت على علم مسبق بحبه للشعر وبقدرته على
انتقاء الكلام المعسول والإبحار به في عوالم تنفض عن الكاهل هموم السنين لكنني لم
أكن قادرة على الوقوف بشكل كامل على تلك القوة في التعبير وارتجال الشعر فقال:
أيتها الساحرة الماهرة
أيتها الأنثى الرائعة
كيف تسلبينني اللب
وتتمكنين خلال تلك السنين
وما تبقى بأعوامي من سنين
كيف تتمكنين من رسم صورتك في فنجان الشاي
وكأس الماء
والدفتر والكتاب
ورغيف الخبز وفي السماء
كيف تتمكنين
من طبع صورتك على كل طريق
على باب دار أي صديق
وفي حبات المسبحة
وعلى سجادة الصلاة
أيتها الساحرة الماهرة
هل من ترياق أسعف به نفسي
هل من علاج لألمي الذي أصبح عليه وأمسي
سألتك بالله
كيف تجمعين بين الطهر وبين الحب
وبين السحر
كانت كلماته تسعدني وترفعني لعوالم ملائكية
بعيدا عن بني البشر الذين صارت عيون البعض منهم تراقبنا رغم قلتهم في مرسمي الذي
كان قيد الإنشاء آنذاك، ثم انتابتني حمى خجل أنثوي فأطرقت رأسي بين كفاي.
سألني هل تقبلين بي زوجا فقبلت دون تردد لأني
كنت تواقة منذ مراهقتي بالاقتران برجل في سماته وصفاته تلك، واتفقنا على التأني في
خطوتنا اللاحقة لألا تجرنا عواطفنا خلف دمعة انتحلت صفة السعادة وأتقنت التخفي.
أشعر أن العامين اللذان قضيتهم مع طليقي كانا
قرنين من العذاب والألم وأشعر أن العامين اللذان قضيتهم مع حبيبي لم يتعديا في
التعداد الزمني سوى ليلة وضحاها فأذن الله في ملكوته لتلك الليلة وضحاها أن تنتهي
وأن نعلن إصرارنا على تتويج هذا الحب والاقتران، وأفصح عن عجزه من ديمومة البعاد
وعن استحالة الصبر لديه، وأعلن عن رغبته بالإفصاح عن سر يخفيه عني قد يشكل منعطفا
في تاريخ علاقتنا وقد يكون حافزا لأن نكون علمان من أعلام الحب على هذه البسيطة.
سألني وهو يستدير بناظريه عني:
ـ هل تهتمين إذا ما كنت مسيحي أو مسلم.
هي صفعة تزلزل الأركان فليس التلاعب بالأديان
مقبول في كل العلاقات وأخصها تلك العلاقة التي نبني لنتوجها بالزواج
ـ أيها المخادع، أيها المنافق.
قلتها وأنا على وعي بما أنطق، قلتها وأنا على
وشك فقدان المقدرة على النطق، فحضن كفي بين كفيه يقبلهما ويرطبهما بدمعة لا أكاد
أتبين أن حرارتها غير اعتيادية أو أن جسدي فيما أصابه يموت ويفقد حرارته شيئا
فشيئا.
ـ دع كفاي فأنت لن تلمسهم ثانية.
لم يهتم لكلماتي بل أغدق سيل من القبل في
كفاي ثم قال:
ـ ما الضير بأني مسيحي؟.
قلت له:
ـ أنا مسلمة ومن أركان إسلامي الإيمان بالله
وكتبه ورسله، أنا أؤمن بالإنجيل وبعيسى، لكنني لا أأتمن على نفسي كاذب مثلك ولا
أستطيع الاقتران إلا بمن كان مسلما وصادقا.
فقال وهو لا يزال في وضعه ذاك يخفي رأسه بين
كفي اللاتي يحضنهم كفيه.
ـ خفت أن ترفضين علاقتي فلم أخبرك بهذا.
فسألته على الفور:
ـ هل تريدنا أن نبقى أصدقاء؟.
أجاب فرحا وهو يرفع رأسه:
ـ نعم
تبين لي تلك اللحظة وجهه الذي كان يخفيه وما
أثرت الدموع في وجهه وماذا أرسلت من ألوان حمراء في مقلتيه وجفنيه لكنني تابعت ما
بدأت حين عرجت على ذاك السؤال
ـ أما كان خير لنا أن نكون أصدقاء من
البداية.
لا أدري لماذا غفرت له، لا أدري سر عدم
ابتعادي عنه ومعاقبته على أكذوبته تلك، لم أدري شيئا عن هذا التبدل المفاجئ الذي
طرأ على مفاهيمي وقراراتي، لكنني على علم بأني كنت بأمس الحاجة لألا أفقده وهذا ما
فعلته.
نعم خشيت أن أفقده وشرعنا نفتش عن حلول
تمكننا من الزواج بعضنا ببعض لأني ما كنت قادرة على التخلي عن عقيدتي وديانتي كما
كان من طرفه يتمسك بها ويتمسك بي.
وذات يوم حدثني بصوت دب في قلبي الرعب وعلمت
أنه مريض فطلبت إليه أن يسارع لطبيب وألا
يتوانى عن إسعاف صحته لكنه كان مستهترا بهذا الرعب الذي لا أعرف مصدره، ولم يلبي
ندائي متمنعا بالممازحة والاستهتار، لكن عواصف الخوف كانت ترعد وتبرق في مخيلتي
فتهطل سموم الأفكار في حقل هواجسي بجزع لا مبرر له.
وذهبت إليه دون موعد مسبق بإصرار على مرافقته
لطبيب يفسر ما أصاب توأم الروح من ذبول ووهن، رافقني بعد ممانعة وشد وجذب، وظل
يسخر من لهفتي طيلة الطريق التي شعرتها قد طالت بنا، وفجأة توقف عن السخرية حين
نطق الطبيب بما منع عن كلانا الابتسام وحرم علينا النوم.
كان كل شيء يسير بسرعة غير اعتيادية مع أصوات
الرعب المخنوقة في الضمائر والتي لا يريد أيا منا سماعها مع الآخر، وأجريت فحوص
الدم، وأخذت الصور الإشعاعية، وتأكد للطبيب إصابة مريضه بالسرطان الذي تنبأ به في
كشفه الأولي.
كان قويا كما عهدته وراح يصيح مستهزئ بالطبيب
رافضا الإقرار بحقيقة مرضه، لم يكن خائفا من الموت بل زاده ذاك النبأ دعابة وزاده
سخرية ممن حوله ومما سمع من الطبيب بل سخر من المرض ومن الموت لأننا معشر البشر
عاجزون عن التصدي لهم أو التنبؤ بمجريات أحداثهم ولا يسعنا أمام عظمة حدثهم إلا
الابتهال لله وإرسال الأماني مشرعات.
قال لي وهو في حال أفضل مما بدا عليها خلال
تلك الفترة الماضية:
ـ لدي رغبة بالشراب فهل تتقبلين دعوتي للشراب.
وقبل أن أجيبه أضاف شعرا
هل تتقبلين دعوتي للشراب
هل ستمنحينني الخلود فترافقيني
هل تسمحين أيتها العزيزة
أن أدفن رأسي في صدرك المستعر غطرسة
لأبث أنيني
هل تتقبلين أن أقف أمام قداستك
أفرغ ما بجعبة الآثام بشخصي
كي أزيل همومي
فأنت جلاد خطيئتي وإن لم أقترفها
وأنت ملاذ النجدة
من هول الماضي
وما تضمره لي سنيني
فهل تغفرين لي أن أدنو منك أكثر وأكثر
جل الأماني أن أطوق خصرك المتلوي بيميني
أن تعصف الثمالة بنا
فنتيه عن الماضي والحاضر
ولا نعير للمستقبل المجهول اهتماماً
فأترفع عن آدميتي التي لا تعنيني
وتتنازلين عن طهر الملائكة
إن الملائكة تسبح بحمد الله وتستغفره
أما أنت فتسبحين في بؤبؤ عيني
وتطوفين بمراكب الإغراء
إن سلاحك فتاكا يرديني
وللمرة الثانية في حياتي قررت أن أتنازل عن
بعض مبادئي فرافقته أراقبه وهو يحتسي الخمر التي تزيده نشوة وتزيده شعرا وتزيده في
نظري جمالا ومعافاة.
كانت سهرة رائعة انتهت في وقت متأخر من الليل
أعادني فيه إلى داري وغادر بعد ما اتفقنا على أن يكون على اتصال معي فور وصوله
للدار، وجلست أنتظر مكالمته ولا أزال.
نعم لا أزال بانتظار اتصاله
بانتظار أن يجيب اتصالي
بانتظار أن أطلع على أخباره
لقد اختفى
رحل
ضاع
وضاعت أيامي في انتظار لم يحمل يوما إلا ألام
تفوق ما يعاني في مرضه وأرسلني بحزن للتساؤل عن سبب هذا البعاد وهذا الانقطاع،
وقررت أن أحمل صليب آثامي مع هلال إيماني وأن أرسل له عبر الأثير ما يؤكد أنه فيما
أقدم عليه لم يرفع عني هاجس الحزن بل اقتص مني قصاص ما كنت اقترفت أثمه وما كنت
أحسبه لهذا القدر مهين
صادق أسود
صادق أسود
للعودة إلى الصفحة الرئيسية اضغط هنا
للعودة إلى صفحة الرواية اضغط
هنا
للعودة إلى صفحة كلمات أغاني اضغط
هنا
للعودة إلى صفحة همسات معبرة اضغط
هنا
للعودة إلى صفحة القصة اضغط
هنا
للعودة إلى صفحة نصوص مسرحية اضغط هنا
للعودة
إلى صفحة السيناريو "أفلام ، مسلسلات اضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق